أمَّا الموضوع الذي نتحدَّث عنه ـ وهو السُّنَّة مصدرًا للمعرفة والحضارة ـ فهو أمر جديد على العقل المسلم، وإن كان له جذوره في تراثنا، ولكنها جذور غائرة في الأعماق، تحتاج إلى نبش وكشف عنها، حتى تظهر للعيان، وتتبيَّن للناظرين، وهو ممَّا عُني به إخواننا في «المعهد العالمي للفكر الإسلامي» في واشنطن، وطلبوا إليَّ الاهتمام ببحثه، فكان هذا الكتاب، الذي نشر طبعتَه الأولى «مركز بحوث السُّنَّة والسيرة»، بجامعة قطر.
إنَّ الله تعالى ذكر وظائف (الرسالة المحمدية) في أربع آيات من كتابه، في كل منها: ﴿ رَبَّنَا وَٱبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءَايَـٰتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ ﴾ ، وفي واحدة منها زيادة: ﴿ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ﴾ ؛ فالجانب المعرفي التعليمي هو جزء من المهمة النبويَّة.
وتعليم (الكتاب) أخصُّ من تلاوة الآيات، فهو يعني الشرح النظري والتطبيق العملي للقرآن، وهو البيان الذي وكل إلى النبي ﷺ : ﴿ وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ٱلذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ والحكمة: إما نظرية وهي: معرفة الحقائق على ما هي عليه. أو عملية وهي: وضع الشيء في موضعه المناسب.
كما أنَّ الله بعث رسوله الكريم، ليصنع به أُمَّة ربانيَّة متميِّزة، سمَّاها الله ﴿ أُمَّةً وَسَطًا ﴾ ، و﴿ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ﴾ : وهي أُمَّة (الصراط المستقيم) صراط التوازن والتكامل بين المادة والروح، بين الدنيا والآخرة، بين العقل والوحي، بين المثالية والواقعية، بين الفردية والجماعية، بين الحرية والمسؤولية، بين الإبداع المادي والالتزام الإيماني، فقامت على أساس هذه التعاليم حضارة عالمية فذَّة، جمعت بين الربانية والإنسانية، بين العلم والإيمان، بين الرقيِّ والأخلاق، هي الحضارة الإسلامية التي سادت العالم قرونًا، واقتبست من حضارات الأقدمين، وهذبتها وأضافت إليها، وابتكرت الجديد المفيد في علوم الدين ومعارف الدنيا.