وفي المرحلة الجامعيَّة تبلورت المطالب وتحدَّدت أكثر من قبل. وقد التقينا مع عددٍ من المسؤولين في الأزهر للحوار حول هذه القضايا: فكان منهم المتجاوب إلى أقصى حدٍّ، كالمغفور له الأستاذ الأكبر الشيخ محمَّد الخضر حسين، ومنهم من لم يُعِرْ هذه التطلُّعات بالًا، واعتبرها أمانيَّ بعيدةَ المنال.
ولا زلت أذكر آخر مؤتمر عقدناه وأنا طالب في تخصُّص التدريس أواخر سنة 1953م في ساحة كلِّيَّة الشريعة بالدَّرَّاسة، حضره أبناء الكُلِّيَّات الثلاث، ومعهد القاهرة، ومعهد البعوث، وتحدَّثت فيه طويلًا عن مطالبنا وتطلُّعاتنا الدينيَّة والعِلْمِيَّة والأدبيَّة والاجتماعيَّة.
وأذكر أنَّنِي ابتدأتُ هذا المؤتمر الحاشد بقصيدةٍ لا زال إخواني الأزهريُّون يحفظون بعضها، ويُذَكِّرُونني بها إذا لَقُوني. ولم أعُدْ أحفظ منها إلَّا أبياتًا قليلة، فقد ضاعت فيما ضاع في أُتُون المحن المتتابعة الَّتي ابْتُلِيَتْ بها مصر، ودعاة الإسلام فيها.
من هذه الأبيات:
صَبَرْنَا إلى أنْ مَلَّ من صبرِنا الصَّبرُ
وقُلْنَا: غدًا أَوْ بَعْدَهُ يَنْجَلِي الْأَمْرُ!
فكان غدٌ عامًا، ولو مُدَّ حَبْلُه
فَقَدْ يَنْطَوِي فِي جَوْفِ هَذَا الغَدِ الدَّهرُ!
وقُلْنَا: عَسَى أن يُدْرِكَ الحقَّ أهلُهُ
فَصَاحَتْ «عَسَى» مِنْ «لَا»، وَ«لَا» طَعْمُها مُرُّ!
وَمَاذَا عَلَيْنَا بَعْدَ أنْ فَارَ مِرْجَلٌ
مِنَ الْغَيْظِ وَالْآلَامِ يَغْلِي بِهِ الصَّدْرُ؟!
سَدَدْنَا بِطُولِ الصَّبْرِ مِنَّا صِمَامَهُ
فَزَادَتْ عَلَيْهِ النَّارُ، فَانْفَجَرَ القِدْرُ!
وفي هذه الفترة ـ 1952/1953م ـ بعد أن أُوقفت معارك القناة، الَّتي شارك فيها الأزهر بكتيبته الَّتي ذهبت إلى الشرقيَّة، واحتُفل بها في قاعة الشيخ محمَّد عبده بالدَّرَّاسة في يوم من أيام الأزهر الخالدة، عدنا إلى القاهرة لنُوجِّه عنايةً أكبر إلى إصلاح الأزهر من داخله، وبعث الحيويَّة في كُلِّيَّاته ومعاهده؛ ليتبوَّأ مكانَه في قيادة الأُمَّة تحتَ لواء الإسلام كما كان من قبل.