ومع هذه المُكْنة والقدرة الهائلة، لم تراع هذه الحضارة فِطرة الله في الإنسان، ولم تحافظ على الخصائص الذاتية للإنسان، ولم تبالِ بمستقبل الإنسان، ومصير الإنسان، حتى غدا علم الحضارة وتقدمها ذاته خطرًا عليها، وكاد ينطبق على هذه الحضارة وأهلها ما ذكره القرآن: ﴿ حَتَّىٰٓ إِذَآ أَخَذَتِ ٱلْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَٱزَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَـٰدِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَىٰهَآ أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَـٰهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِٱلْأَمْسِ ۚ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلْـَٔايَـٰتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ .
كان عيب هذه الحضارة أنها استغنت عن الله، وعزلته عن الحكم في ملكه، وتصرَّفت كأنها صاحبة الخلق والأمر في هذا العالَم، وعظَّمت كل ما هو مادي، وهوَّنت كل ما هو معنوي، واعتبرت التقدم في إنتاج أكبر كمّ من السلع والخدمات، وإشباع أكبر قدر من اللَّذات والشهوات، ولو كان ذلك على حساب القيم والأخلاق.
فلا عجب أن ضمرت رُوحها، وإن كبُر جسمُها، وانطفأ نورها، وإن بقيت نارها، فأصبحت دنيا بلا دين، وعلمًا بلا إيمان، وتمثالًا بلا رُوح.
وهذا حكمٌ على الغالب والسائد من غير شكّ، فقد توجد بذور خير ومصابيح هداية، هنا وهناك، سُنَّة الله في خلقه، ولعلها هي التي تؤخر سقوط هذه الحضارة. ولكن العبرة بالغلبة، وللأكثر حكم الكل، كما قال فقهاؤنا من قديم.
وهذا هو الذي أقلق المخلصين من أهل العلم والفكر والأدب والسياسة: أن يصيب هذه الحضارة ما أصاب ما سبقها من الحضارات، ويجري عليها القانون الإلهي الذي لا يُحابي ولا يَحيف.