ولقد دلَّتنا قراءة تاريخ الأمَّة الممتدِّ، واستقراء واقعها الماثل للأعين: أنَّ هذه الأمَّة يمكن أن تنام أو تُنوَّم، فترات تقصر أو تطول، ولكنَّها لا تموت أبدًا، بل تظلُّ عروقها تنبض بالحياة.
ولا يرتاب دارسٌ متعمِّق أنَّ في كِيانِ هذه الأمَّةِ المعنويِّ عوامل ذاتيَّة، خليقة بأن تبعثها من همودٍ، وأن توقظها من رقودٍ، وأن تُحرِّكها من جمود.
وحسْبُها أنَّ الله تعالى تكفَّل بحفظ مصادرها الأصليَّة من الضياع أو النسيان أو التحريف، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَـٰفِظُونَ ﴾ .
والذِّكْر هو القرآن، وقد حفظه الله تعالى أكثر من أربعة عشر قرنًا، فلا زال كما أُنْزِل، بألفاظه وحروفه، محفوظًا في الصدور، مكتوبًا في السطور، متلوًّا بالألسنة، مقروءًا كما كان منذ عهد النبوَّة بغَنِّه ومَدِّه.
وحِفْظ القرآن ـ كما ذكر الإمام الشاطبيُّ ـ يستلزم حفظ السُّنَّة معه؛ لأنَّها بيان له(1)، كما قال تعالى: ﴿ وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ٱلذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ﴾ ، وحفظ المبيَّن يقتضي حفظ بيانه، حتَّى لا يبقى بلا بيان.
وكثيرًا ما تمر على هذه الأمَّة فترات حالكة، يظنُّ النَّاسُ فيها الظنون، ويُبتلى المؤمنون، ويُزلزَلون زلزالًا شديدًا. ويحسب مَنْ يحسب أنَّ شمس الإسلام قد غربت إلى الأبد، وأن جذوة أُمَّته قد أُطْفئت فلن تشتعل أبدًا. وسرعان ما يرون الأحداث تُكَذِّب ظنونَهم، وتُخَيِّب فألَهم، وإذا بالسقيم يُشفى، والهامد يتحرَّك، والمارد يخرج من قُمقمه، ويرى النَّاس منه الأعاجيب.