طبعًا وقف الدين المسيحي ضدَّ التفكير العلمي ـ والدين هنا نعني به دين الطبقة الغربية ـ وضدَّ طموح العلماء، وضدَّ اختراع المخترعين، وقفت الكنيسة بما احتضنته من قضايا علمية أضفت عليها نوعًا من القداسة، بعض النظريات التي ورثتها من الإغريق قديمًا، واعتقدت أنها المعصومة لا خطأ فيها، وبدأت تدافع عنها. كلُّ مَن يخالف هذه النظريات في الفلك القديم، أو الجغرافيا القديمة، أو النظرة إلى الكون، وإلى الطبيعة، يعاقب ويعذَّب، بل يقتل في كثير من الأحيان. فحدث ما حدث من صدام مروِّع، وما عُرف باسم «محاكم التفتيش»، وما ارتكب فيها من مجازر بشرية تقشعر لها الأبدان، وتشيب لهولها الولدان، حُرقت الجثث، بل حرق الناس أحياء، وحُرقت الكتب. تاريخ أسود تنتفخ به بطون الكتب، وهو معروف، قد حكى كثيرًا منه الإمام محمد عبده في كتابه «الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية»(1).
المهم كانت النتيجة أنه بعد هذا الصراع الدموي انتصر العلم على الكنيسة، وظنَّ الناس أن هذا كان انتصار العلم على الدين، وانتصار العقل على الوحي، وانتصار الفكر على العقيدة، وهذا كان له أثره في تفكير الناس بعد ذلك، كانت الصيحة التي نادى بها الناس الثائرون على الكنيسة: اشنقوا رأس آخر ملك بأمعاء آخر قسيس.
ثار الناس على الكنيسة، وعلى كلِّ ما تمثِّله الكنيسة؛ لأنها وقفت مع الملوك ضدَّ الشعوب، مع الإقطاعيين ضدَّ الفلاحين، مع أرباب العمل ضدَّ العمال، مع الخرافة ضدَّ الفكر، ومع الجهالة ضدَّ العلم. وكانت النتيجة أن الدين أصبح في جانب، والعلم في جانب، وهذا جعل الحضارة الغربية من أول الأمر تتَّخذ موقفًا من الدين، وتعتقد أن الدين معادٍ للعلم، وأنه ينبغي أن ينفصل كلٌّ منهما عن الآخر. هذا كان مكونًا أساسيًّا من مكوِّنات الحضارة الغربية: أنها نشأت منذ نشأت منفصلة عن الدين معزولة عنه.