وقول الآخر:
إنَّ قَلْبًا أنتَ سَاكِنُهُ
غُيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى السُّرُجِ
وَجْهُكَ الْمَأْمُولُ حُجَّتُنَا
يَوْمَ يَأْتِي النَّاسُ بِالْحُجَجِ(1)
أثَّرت هذه المعاني والتأكيد عليها في عقول الإخوان وقلوبهم، فنشأ جيل ربَّاني يسهر ليله لله، ويظمئ نهاره لله، لا يمنعه برد الشتاء عن القيام، ولا هجير الصيف عن الصيام؛ لأنَّه يجد في عبادة ربه نشوة، وفي طاعته لذة، وفي الوقوف بين يديه سعادة، كتلك الَّتي عبَّر عنها أحد الصالحين قديمًا بقوله: «لو علم بها الملوك لجالدونا عليها بالسيوف»(2).
وما برحت أذكر صفوف المتهجدين في معتقل الطور، حيث كان يمرُّ بعض الإخوان في الثلث الأخير من الليل ينادي بصوت مؤثر:
يا نائمًا مستغرقًا في المنام
قم فاذكر الحي الَّذي لا ينام
مولاك يدعوك إلى ذكره
وأنت مشغول بطيب المنام!
هناك يستيقظ النائم، ويخف المتثاقل، وينهض المتكاسل، ليتعرض لنفحات الله في هذا الهزيع المبارك من الليل عسى أن تناله بركة «المستغفرين بالأسحار».
إنَّ مدرسة الليل ـ بما فيها من صلاة ودعاء وقرآن وترتيل، وبما تُهيِّئ للأرواح من زاد، وللقلوب من عتاد ـ هي الَّتي تخرِّج المسلم الَّذي يحتمل أعباء الرسالة، وميراث النبوَّة بقوَّة وأمانة، كما حملها النبي الكريم، الَّذي خاطبه الله منذ إشراق الدعوة في عهدها المكِّي: ﴿ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ 1 قُمِ ٱلَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا 2 نِّصْفَهُۥٓ أَوِ ٱنقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا 3 أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ ٱلْقُرْءَانَ تَرْتِيلًا 4 إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا 5 ﴾ .