وقد أكَّد حسن البنَّا على هذا المعنى الأساسي في كل رسائله وكافَّة محاضراته المطالبة بحكم القرآن وإقامة دولة الإسلام، محارِبًا بذلك الفكرة «العلمانيَّة» الخبيثة الدخيلة الَّتي تنادي بفصل الدين عن الدولة في الحكم والتشريع والتعليم والإعلام وغيرها، فلئن جاز هذا في عرف النصرانية الَّتي يقول إنجيلها: دعْ ما لقيصر لقيصر، وما لله لله(1). لا يجوز ذلك أبدًا في عرف الإسلام الَّذي لا يقبل قسمة الحياة، ولا قسمة الإنسان بحال من الأحوال، بل يعتبر قيصرَ وما لقيصر، والحياة كلها، والإنسان كله لله الواحد القهار.
يقول الإمام الشهيد في رسالته «إلى الشباب»: «نريد (الحكومة المسلمة) الَّتي تقود الشعب إلى المسجد، وتحمل به النَّاس على هدى الإسلام مِن بعْد، كما حملتهم على ذلك بأصحاب رسول الله ﷺ : أبي بكر وعمر من قبل. ونحن لهذا لا نعترف بأيِّ نظام حكومي لا يرتكز على أساس الإسلام، ولا يستمدُّ منه، ولا نعترف بهذه الأحزاب السياسيَّة، ولا بهذه الأشكال التقليدية الَّتي أرغمنا أهلُ الكفر وأعداء الإسلام على الحكم بها والعمل عليها.. وسنعمل على إحياء نظام الحكم الإسلامي بكل مظاهره، وتكوين الحكومة الإسلاميَّة على أساس هذا النظام»(2).
وفي «رسالة المؤتمر الخامس» يعرض لهذه النقطة بمزيد من الإيضاح والبيان فيجيب عن تساؤلات النَّاس عن «موقف الإخوان من الحكم» فيقول: «ويتساءل فريق آخر من الناس: هل في منهاج الإخوان المسلمين أن يكوِّنوا حكومة وأن يطالبوا بالحكم؟ وما وسيلتهم إلى ذلك؟ ولا أدع هؤلاء المتسائلين أيضًا في حيرة، ولا نبخل عليهم بالجواب، فالإخوان المسلمون يسيرون في جميع خطواتهم وآمالهم وأعمالهم على هدى الإسلام الحنيف كما فهموه، وكما أبانوا عن فهمهم هذا في أول هذه الكلمة، وهذا الإسلام الَّذي يؤمن به الإخوان المسلمون يجعل الحكومة ركنًا من أركانه، ويعتمد على التنفيذ كما يعتمد على الإرشاد، وقديمًا قال الخليفة الثالث 3 : «إنَّ الله ليَزَعُ بالسلطان ما لا يَزَعُ بالقرآن»(3)، وقد جعل النبيُّ ﷺ الحكم عُروة من عُرا الإسلام(4). والحكم معدود في كتبنا الفقهيَّة من العقائد والأصول، لا من الفقهيَّات والفروع، فالإسلام حكمٌ وتنفيذ، كما هو تشريع وتعليم، كما هو قانون وقضاء، لا ينفكُّ واحد منها عن الآخر، والمصلح الإسلامي إن رضي لنفسه أن يكون فقيهًا مرشدًا يقرر الأحكام ويرتل التعاليم ويسرد الفروع والأصول، وترك أهل التنفيذ يشرعون للأمة ما لم يأذن به الله، ويحملونها بقوَّة التنفيذ على مخالفة أوامره؛ فإنَّ النتيجة الطبيعية أن صوت هذا المصلح سيكون صرخة في وادٍ، ونفخة في رماد كما يقولون.