لم يقف حسن البنَّا من التراث الفقهي بمذاهبه ومدارسه موقف الرفض المطلق، كما صنع بعض الناس، ولا موقف القبول المطلق، كما فعل آخرون، ولم يوجب التقليد للمذاهب، ولم يحرِّمه كذلك على كل الناس، لكنَّه أجازه لبعض النَّاس بقيود وشروط هي غاية في الاعتدال فقال في «الأصل السابع» من الأصول العشرين: «لكل مسلم لم يبلغ درجة النظر في أدلَّة الأحكام الفرعية أن يتَّبع إمامًا من أئمة الدين، ويحسن به ـ مع هذا الاتباع ـ أن يجتهد ما استطاع في تعرُّف أدلة إمامه، وأنْ يتقبَّل كلَّ إرشاد مصحوب بالدليل، متى صحَّ عنده صدق من أرشده وكفايته، وأن يستكمل نقصه العلمي ـ إن كان من أهل العلم ـ حتَّى يبلغ درجة النظر» (أي القدرة على الترجيح والاجتهاد ولو جزئيًّا).
وليس معنى هذا أنَّ كل ما قاله إمام من أئمة الدين حقٌّ وصواب، فإنَّما هو مجتهد في الوصول إلى الحق، فإنْ أصاب فله أجران، وإنْ أخطأ فله أجر، وليس علينا ـ بل ليس لنا ـ إذا تبيَّن خطؤه أن نتبعه. ولهذا قال في «الأصل السادس» بصريح العبارة: «وكل أحد يؤخذ من كلامه ويترك، إلَّا المعصوم ﷺ . وكلُّ ما جاء عن السلف رضوان الله عليهم موافقًا للكتاب والسُّنَّة قبلناه، وإلَّا فكتاب الله وسنَّة رسوله أولى بالاتِّباع، ولكنَّا لا نعرض للأشخاص ـ فيما اختُلف فيه ـ بطعن أو تجريح، ونكلهم إلى نيَّاتهم، وقد أفضوا إلى ما قدَّموا»(1).
وهذا هو الاعتدال، كما أنَّه هو الإنصاف الَّذي لا يستطيع أحد أن يماري فيه، وهو موقف شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه المركَّز الجليل «رفع الملام عن الأئمة الأعلام».
ولم يقف رائد الحركة الإسلاميَّة عند هذا الحد، بل أعلن أنَّ كل الآراء والعلوم الَّتي تلوَّنت بلون عصرها وبيئتها لا تلزمنا نحن دعاة الإسلام في القرن الرابع عشر الهجري، ولنا الحرِّيَّة أن نجتهد لأنفسنا كما اجتهدوا، وإن كنَّا لا نهمل دراستها والانتفاع بها، فهي ثروة عظيمة بلا شكٍّ.