والعجيب أنَّ هذا الكلام قاله رجل مثل الشيخ خالد محمَّد خالد في كتابه المعروف «من هنا نبدأ»(1)! وأعجبُ كيف يصدر هذا من مثله، وهو من علماء الأزهر! لأنَّه يحمل اتِّهامًا لربِّ هذا الدِّين والموحي بشريعته إلى رسوله: أنَّه كلَّف النَّاس ما لا يُطِيقون! وألزمهم بشريعةٍ غير قابلة للتطبيق، وهو الحَكَم العدل والعليم الحكيم!
ولكنْ من فضل الله تعالى: أنَّ الشيخ خالدًا رجع عن قوله هذا، وتاب إلى الله منه، وخطَّأ نفسه في صراحةٍ وشجاعة قلَّ أنْ يفعلها غيرُه، وبيَّن الدوافع الَّتي دعته إلى ذلك. وهذا في كتابه الَّذي أصدره تحت عنوان «الدولة في الإسلام»(2).
ولكنَّ جماعة العِلمانيِّين الَّذين يعادون الشريعة، ويريدون أنْ نستورد قِيَمنا ومفاهيمنا وقوانيننا وتقاليدنا من الغرب: استغلُّوا كلام الشيخ خالد، ووسَّعوه، وبنَوْا عليه، وإن لم ينسبوه إليه، بل خيَّلوا إلى قرائهم أنَّ الفكرة فكرتهم، كما رأينا في كلام فؤاد زكريَّا، الَّذي ردَدْنا عليه في كتابنا «الإسلام والعِلمانيَّة»(3).
ويؤسفني أنْ أقول: إنَّ عددًا من الدُّعاة الإسلاميِّين الكبار ساعدوا العِلمانيِّين عن غير قصد بقسوتهم على التاريخ الإسلامي، وتضخيم مثالبه وعيوبه، والتقليل من محاسنه ومزاياه، غفر الله لهم.
ولا أعني بهذا أنْ أقول: إنَّ التاريخ الإسلامي تاريخ ملائكة مطهَّرين، أو أنبياء معصومين، لا خطايا فيه ولا أخطاء، كما يفهم من كلام بعض المتحمِّسين الَّذين يتحدَّثون عن تاريخ الإسلام بعاطفة المُحِبِّ، لا بعقل الباحث. فهذا ما لا يقوله عاقل، فضلًا عن أنْ يقوله عالم. فالمسلمون كغيرهم من النَّاس يُصيبون ويخطئون، ويستقيمون وينحرفون، ويعدلون ويظلمون، ولكنْ ينبغي أنْ نحكم على التاريخ بمجموع أحداثه ووقائعه، وبكلِّ فئاته وطبقاته، وبجميع أقطاره وأمصاره، وبالمقارنة بينه وبين غيره من تواريخ الأمم في عصره. وهنا نجد تاريخنا يتميَّز ويتفوَّق على كلِّ تواريخ الأمم في تلك العصور.