ونقل عن عبد الغافر الفارسي أنَّه كان يصل الليل بالنَّهار في التحصيل، ويبكر كل يوم قبل الاشتغال بدرس نفسه إلى مسجد أبي عبد الله الخبَّازي، يقرأ عليه القرآن، ويقتبس من كل نوع من العلوم ما يمكنه، مع مواظبته على التدريس، وينفق ما ورثه وما كان يدخل له على المتفقهة، ويجتهد في المناظرة ويواظب عليها، إلى أن ظهر التعصب بين الفريقين، واضطربت الأحوال والأمور.
وهناك اضطرَّ إلى السفر، والخروج من البلد، فذهب مع المشايخ إلى بغداد، يلتقي بالأكابر من العلماء، ويدارسهم، ويناظرهم، حتَّى طار ذكره في الأقطار.
ثم ذهب إلى الأرض المقدسة، وجاور بمكة أربع سنوات، وبهذا لقب «إمام الحَرَمَيْن»، ثمَّ عاد إلى نيسابور بعد ولاية السلطان «ألب أرسلان»، ووزارة «نظام الملك» له. وقد استقرت أمور الفريقين، وانقطع التعصُّب. فبُنيت له «المدرسة النظاميَّة» بنيسابور، وأُقعد للتدريس فيها، وبقي على ذلك قريبًا من ثلاثين سنة غير مزاحَم ولا مدافَع.
ثم ذكر السُّبْكي فصلًا آخر في «ذكر شيء من ثناء أهل عصره عليه»، مثل: الإمام أبي إسحاق الشيرازي، وشيخ الإسلام أبي عثمان الصابوني، والحافظ أبي محمَّد الجُرْجاني، وقاضي القضاة أبي سعيد الطبري، والفقيه الإمام غانم الموشيلي.
قال أبو إسحاق: «تمتَّعوا بهذا الإمام، فإنَّه نزهة هذا الزمان».
وقال له مرَّةً: «يا مفيدَ أهلِ الشرق والغرب، لقد استفاد من علمك الأوَّلون والآخرون».