وقد ذكر الإمام الذهبي موقفًا لإمام الحَرَمَيْن في الدفاع عن موقف الأشعرية في قضية «أفعال العباد»، ومن المعلوم للدارسين أن موقف الأشعري في ذلك من أضعف المواقف، حتَّى ضُرِب به المثل في الخفاء، فقيل: أخفى من كسب الأشعري! وقيل: ثلاثة من محالات الكلام: طفرة النظَّام، وكسب الأشعري، وأحوال أبي هاشم(1).
والعجيب أنَّ السُّبْكي لم يعقِّب على هذا الموقف، مع أنه لم يَدَعْ شيئًا من هذا اللون ممَّا ذكره الذهبي إلَّا تعقَّبه بعنفٍ، بل بتجريح!
والحق أنَّ من الفضائل الَّتي تميَّز بها إمام الحَرَمَيْن، وتبدو لكل مَن درس حياته وتراثه بلا تعصُّبٍ له ولا عليه: الإخلاص في طلب الحقيقة، عن طريق العقل الناقد، والشرع الضابط، فإذا كشفت له الحقيقة قناعَها، ومدَّت له شعاعها، بادر إلى الإيمان بها واعتناقها، والإعلان عنها بشجاعةٍ لا نظير لها، وإن كانت مخالفةً لما عليه الجمهور، أو ما عليه المذهب، وما مضى عليه دهرًا من حياته، وقضى سنين عددًا وهو يدرسه ويُصنِّف فيه، ويذود عنه، ويحثُّ على اتباعه.
وهذا واضح في مذهبه «العقدي» أكثر منه في مذهبه الفقهي، فمن المعروف والمشهور: أنَّ إمام الحَرَمَيْن كان من كبار متكلمي الأشاعرة، المؤوِّلين لآيات الصفات وأحاديثها، المدافعين عن التأويل. وقد برز في «علم الكلام» واشتُهر به، وصنَّف فيه التصانيف الَّتي سارت بذكرها الركبان، مثل: «الشامل» و«الإرشاد» و«اللُّمَع» و«النظاميَّة» وغيرها، وأخذ عنه هذا العلم كثيرون من تلاميذه النوابغ. وكان يتكلَّف في تأويله والدفاع عن مذهبه الأشعري إلى حد الاعتساف أحيانًا، الَّذي لا يرضاه المنصفون. وهذا شأن البشر.