واليوم يُعيد التاريخ نَفْسَه، وتتكرَّر المأساة، ويتجدَّد الطغيان والاضطهاد لحملة الدعوة الإسلاميَّة، ولكن بصورةٍ أعنفَ وأقسى، وأشدَّ ضراوةً ووحشيَّةً، وتبرز مواقفُ كمواقفِ سعيدٍ في مواجهة طغيان أخبث وأعتى وأشدُّ كفرًا من طغيان الحجَّاج.
ومن هنا وجدت الدافع الَّذي دفعني إلى كتابتها بالأمس لا يزال قائمًا اليوم، بل هو أقوى، وبدأت أكتبها من جديدٍ، مُستلهمًا تاريخ تلك الحقبة الغنيَّة بالبطولات والمواقف الرائعة إلى جوار ما حفلتْ به من مظالمَ، وما طفحتْ به من تجبُّر وطغيان، ومُستهديًا بشخصيَّة سَعِيد بن جُبَيْر، وما عُرِف به من علمٍ وإيمانٍ وشجاعةٍ وثباتٍ، سجَّلتْها لنا كتبُ الأدب والتاريخ والرجال.
ومَن هو سَعِيد بن جُبَيْر؟
إنَّه إمامٌ من أئمَّة التابعين، كان ابن عبَّاس حَبر الأُمَّة إذا سأله أحدٌ من أهل الكوفة في مسألةٍ قال: «أتسألونني وعندكم سَعِيد بن جُبَيْر؟»(1).
وقال فيه أحمد بن حنبل: «قُتل سَعِيد بن جُبَيْر وما على وجه الأرض أحدٌ إلَّا وهو محتاج إلى علمه»(2).
وقد أنكر سعيد ـ كما أنكر غيرُه من الفقهاء ـ سِيرَة الحجَّاج في النَّاس، وعُلُوِّه في الأرض بغير الحقِّ، وإذلاله للمسلمين، وسفكه للدماء، ووأده للحرِّيَّات، وانتهاكه للحرمات.