ثم عادت عجلة القيادة الحضاريَّة إلى الشرق مرَّة أخرى على يد الحضارة العربيَّة الإسلاميَّة، الَّتي قادت الدُّنيا بزمام الدِّين، وأقامت مدينة العلم والإيمان، وأنشأت حضارة ربَّانيَّة إنسانيَّة أخلاقيَّة عالميَّة، ظلَّ العالم يتعلَّم منها، ويأخذ عنها حوالَيْ ثمانيةِ قرون، وقد ظهر لها فرع في الغرب في الأندلس أضاء نوره في أوربا واقتبس منه كثيرون من أبنائها.
ونام المسلمون وتخلَّفوا، واستيقظ الغربيُّون وتقدَّموا، وكان لا بدَّ لمن جدَّ أنْ يَجِد، ولمن زرع أنْ يحصُد، وأنْ يقبض الغرب على زِمام الحضارة، ويُهَيْمن على العالم بخبرته العلميَّة، وبقُدْرَتِه الاقتصاديَّة، وبقوَّتِه العسكريَّة، وبقينا نحن معدودين في «العالم الثالث» أو في «البلاد النامية» أو في بلاد «الجنوب» العاجز المُتَخَلِّف الفقير.
ومنذ ظهر الإسلام قُدِّر له أنْ يصطدم بالغرب الَّذي كان يُمَثِّله هرقل إمبراطور الدولة الرُّومانيَّة «البيزنطيَّة» والَّذي أرسل إليه الرسول الكريم رسالة يدعوه فيها إلى الإسلام، وختمها بالآية الكريمة: ﴿ يَـٰٓأَهْلَ ٱلْكِتَـٰبِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَآءٍۭ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا ٱللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِۦ شَيْـًٔا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ ٱللَّهِ ۚ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا ٱشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾ .
ولم يستجبْ هِرَقْل للدعوة، رغم إيمانه في قرارة نفسه بأحقيَّتها وصدق صاحبها، وصمَّم على المواجهة، وبدأ أتباعه بقتل بعض الدُّعاة، وكان لا بدَّ من الصدام، وإن كانت القوى العسكريَّة غير متكافئة، فكانت سَرِيَّة مُؤْتة، وكانت غزوة تبوك في العهد النبوي.
وفي عهد أبي بكرٍ استمرَّت المواجهة، وكانت موقعة «اليرموك» الشهيرة، وفتح بلاد الشام وفِلَسْطِين، ثُمَّ مصر وشمال أفريقيا، وهذه الفتوح والانتصارات كلُّها على حساب إمبراطوريَّة الروم البيزنطيَّة، وقد أصبحت هذه البلاد جزءًا أصيلًا وعزيزًا من قلب ديار الإسلام، وقد كانت من قبل نصرانيَّة الديانة.