وطال جدال أهل العلم حول هذه المسألة بين السلفيِّين والخلفيِّين، أو بين أنصار ابن تيمية وخصومهم. وألَّف أحد علماء الأزهر (الشيخ منصور مُحمَّد عويس) كتابًا عنوانه: «ابن تيمية ليس سلفيًّا!»، يريد أنَّه خالف السلف في إنكاره أنَّ مذهبهم هو التفويض، وقد ساق جملة من الأقوال تدلُّ على أنَّ مذهب السلف هو التفويض، وأن ابن تيمية هو الَّذي خالف منهج السلف في ذلك.
وقد نفد هذا الكتاب من السوق، ولم يُطْبَع مرَّة أخرى، وحاولتُ الحصول على نسخة منه فلم أُفْلِح، وقد لقيتُ مؤلِّفه ـ وأنا أعرفه من قبل ـ في الكويت حيث يعمل إمامًا وخطيبًا لأحد المساجد هناك، فسألته عن كتابه هذا، فالتفتَ يَمِينًا وشمالًا، وقال لي: أرجوك لا تذكر هذا الكتاب، حتَّى لا يُقْطَع عيشي، فهُنا فئة لو عرفَتْ أنِّي صاحب هذا الكتاب لم ترضَ ببقائي في هذا البلد يومًا واحدًا، وهيَّجَتِ الدُّنْيا عليَّ.
وهكذا يعيش النَّاس في جوِّ الإرهاب الفكري، حين تطغى مدرسة على سائر المدارس، وتخرس ألسنة الآخرين، وتتفرد هي بالقول، لأنَّها مسنودة بقوَّة سياسيَّة أو اقتصاديَّة، أو غيرها.
ومنذ سنوات أصدر أخونا وزميلنا الدكتور مُحمَّد عياش الكُبيسي من علماء العراق كتابًا قيما حول الصفات الخبريَّة، وقد بحث القضيَّة بحثا أكاديميًّا، يركض فيه وراء الدليل الشرعي، والبرهان العقلي، لا يَحِيد عنهما، ولا يضرب العقل بالنقل أو النقل بالعقل، إذ لا تعارض بين صحيح المنقول وصريح المعقول، كما حقَّق ذلك ابن تيمية في كتابه الشهير «درء تعارض العقل والنقل» في عشرة مجلَّدات.
وقد انتهى الدكتور الكبيسي إلى أنَّ في السلف من أثبت، وفيهم من فوَّض، وفيهم من أوَّل، حتَّى التأويل ثبت عن السلف، وهو حقٌّ. وقد اقتبستُ منه في كتابي «فصول في العقيدة بين السَّلَف والخَلَف»(1)، الَّذي ذكرت فيه ما أرجِّحه من الرأي حول هذه القضيَّة الشائكة، الَّتي اعتركت فيها الآراء، واختلفت فيها مذاهب العلماء، ولم تزل المعركة مشتعلة إلى اليوم.