لقد أعجبني في ابننا الباحث الكريم سيف العصري: أنَّه اقتحم هذا المَيْدان على حداثة سِنِّه، وهو يعلم شدَّةَ خَطَره، وما يمكن أن يجلب عليه، من هجوم المهاجمين، وتنديد المنددين، وتجنِّي المُتَجَنِّين، وسيتَّهمونه بكلِّ نقيصة، ويُجَرِّدونه من كلِّ فضيلة، وسيرمونه بكلِّ سهام التجهيل والتجريح والتبديع والتفسيق، وربَّما التكفير أيضًا.
لقد علم ذلك الشاب الشجاع حينما بدأ يكتب، بل قبل أن يكتب، ولكنَّه لم يُبَالِ أن يخوض المعركة: معركة البحث عن الحقيقة في خبايا المصادر والكتب المختلفة، خلال القرون، وأن يجمع من ذلك كمًّا كبيرًا، من كلِّ الاتِّجاهات والتخصُّصات، وأن يعلن هذه الحقيقة الَّتي تعب في الحصول عليها، وبذل في سبيلها ما بذل من جهد، دأب فيه أيامه، وسهر لياليه، وصدق الشاعر العربي حين قال:
بِقَدْرِ الْجِدِّ تُكْتَسَبُ الْمَعَالِـي
وَمَنْ طَلَبَ الْعُلَا سَهِرَ اللَّيَالِي
وَمَنْ طَلَبَ الْعُلَا مِنْ غَيْرِ كَدٍّ
أَضَاعَ الْعُمْرَ فِي طَلَبِ الْمُحَالِ(1)
إنَّ هذا الشابَّ الحديث السنِّ، النحيف الجسد، يحمل في إهابه عقلَ العالمِ الحرِّ، ورُوح الجندي المجاهد، وقلب المؤمن الَّذي لا يريد إلَّا أن يعرف الحقَّ، ويأخذه من ينابيعه الصافية، ويجهر به حين يعرفه، لا تأخذه في الله لومة لائم.
وبهذا يخدم العلم حقًّا، فالحقيقة بنت البحث، ولا أحد يحتكر الحقيقة، أو يدَّعي أنَّه وحده يملكها، ويغلق باب البحث أمام الآخرين.
وكم من دعاوى في ذلك، زعم أصحابها أنَّها تُمَثِّل الحقيقة الَّتي لا شكَّ فيها، ونقلوا الإجماع عليها، وهاجموا أشدَّ الهجوم من يخرج عليها برأيٍ مخالف. وشيخ الإسلام ابن تيمية نفسه ضحيَّة هذه الدعاوى العريضة، وقد اتَّهمه من اتَّهمه في علمه وفي دينه، وأنَّه خرق الإجماع، وخرج على علماء الأُمَّة، بآراء ما أنـزل الله بها من سلطان، ودخل السجن ومات فيه من أجل ذلك.