وكان ممَّا شدَّني وبهرني من تراث الإمام البنَّا: رسالته الفريدة المركزة الَّتي أرسى بها دعائم العمل الحركي الجماعي، وهي: «رسالة التعاليم» الَّتي وجَّهها إلى «الإخوان العاملين» من الإخوان المسلمين، وقال في مُقَدِّمتها: «أمَّا بعد، فهذه رسالتي إلى الإخوان المجاهدين من الإخوان المسلمين، الَّذين آمنوا بسُمُوِّ دعوتهم، وقدسيَّة فكرتهم، وعزموا صادقين على أن يعيشوا بها، أو يموتوا في سبيلها، إلى هؤلاء الإخوان فقط أوجِّه هذه الكلمات الموجَزة، وهي ليست «دروسًا تُحْفَظ» لكنَّها «تعليمات تُنَفَّذ».
أمَّا غير هؤلاء، فلهم دروسٌ ومحاضرات، وكتبٌ ومقالات، ومظاهرُ وإداريَّات، ولكلٍّ وِجْهَة هو مُوَلِّيها، فاستبقوا الخيرات، وكلًّا وعد الله الحُسْنى».
اشتملت الرسالة على «أركان عشرة» للعمل الإسلامي المنشود، أطلق عليها عنوان «أركان البيعة»، وذلك لأنَّ كلَّ من يريد أن ينتقل من «عضوٍ مُشْتَرِك» إلى «عضوٍ عاملٍ» أو «أخٍ عامل» لا بدَّ له أن يُبَايِعَ قائد الدعوة أو من ينوب عنه على تحمُّل تبعات هذه المرحلة وأعبائها، وما توجبه على صاحبها من سمعٍ وطاعةٍ وكتمانٍ وجهادٍ وتضحيةٍ وعملٍ متواصلٍ وثباتٍ إلى النهاية.
وقد نُنَاقش معنى هذه البيعة ومضمونها في مقام آخر، ولكن الَّذي يعنينا الآن من أركان البيعة العشرة هو: الركن الأوَّل «الفهم».
خلاصة مُرَكَّزة لقراءات مُطوَّلة:
ومن قرأ هذه الأصول وتدبَّرها حقَّ التدبُّر، وكان له اطِّلاع على مصادر العلم والمعرفة الإسلاميَّة أيقن أنَّها تُمَثِّل خلاصة مُرَكَّزة لقراءات طويلة، ودراسات عميقة في علوم القرآن والسُّنَّة، والأصولَيْن: أصول الفقه، وأصول الدِّين، والفقه، والتصوُّف، مع عقليَّة هاضمة مُسْتَوعِبة، قادرة على التأصيل والترجيح.
ولا غرو فقد كان التكوين العلمي لحسن البنَّا تكوينًا متينًا راسخًا، وكان أوَّل رفقائه في مراحل دراسته المختلفة وفي دار العلوم، وكان قارئًا واعيًا للقديم والجديد، عالمًا بمذاهب العلماء السابقين من السلف والخلف، خبيرًا باتِّجاهات المُحْدَثِين والمعاصرين، وخصوصًا «مدرسة المنار» التجديديَّة، وكان البنَّا 5 أقرب إلى فكر السيِّد رشيد رضا في انضباطه من فكر الإمام مُحَمَّد عبده في انطلاقه.