وهكذا ظلَّت الأُمَّة الإسلاميَّة في عهود أصالتها وتقدُّمها على هذا النهج: اتِّباع في الدِّين، وابتداع في الدُّنيا، فالأصل في الدِّين أن يثبُت، والأصل في الدُّنْيا أن تتطوَّر، حتَّى قُدِّر للأُمَّة أن تنتكس على رأسها، وتنقلب على وجهها، فإذا هي تسير سَيْر الأمم المُعْوَجَّة عن الطريق الأمثل، وتبتدع في الدِّين مُخالفةً لشرعها، وتجمُد على الدُّنيا، على غير ما جاء بها دِينُها، وكما وسوس لها أعداؤها.
ومعنى هذه الكلمة (الابتداع الدِّيني): أن يخترع النَّاس بأهوائهم وأفكارهم أشياء من عند أنفسهم، وينسبونها إلى الدِّين، فيُصدِّقها عددٌ من النَّاس، ويدافعون عنها، وتصبح بعد مدَّة من الزمن جزءًا أساسيًّا من الدِّين.
وكثيرًا ما يَهزم هذا الجزءُ الدخيلُ الجزءَ الأصيل، فيقاومُه ويطاردُه، حتَّى يتغلَّب عليه، ويغدو منبوذًا من أكثريَّة أصحاب الدِّين، إلَّا من قليلٍ يُعَدُّون عند الآخرين فئةً خَطِرة على الدِّين، لا همَّ لها إلَّا الهدم والتشويه، وبهذا تنقلب الحقائق، ويُتَّهم البناؤون بالهدم، كما يزعم الهدَّامون أنَّهم بُناة حقيقيُّون.
ومن يقرأ تاريخ الديانات السَّماويَّة الكتابيَّة الكبرى، المعروفة في العالم اليوم، وفي مُقَدِّمتها اليهوديَّة والنَّصرانيَّة، فسيجد ما قلتُه بجلاءٍ ووضوح، إذا قرأ ما قرأه برُوح الناقد، وبعقل المستقلِّ، وبنفسيَّة المتفهِّم، الَّذي لا يقبل قولًا إلَّا بتفكير، ولا تصحُّ عنده دعوى إلَّا بدليل.
ومن أعجب ما أصاب هذه الأديان: أنَّ الضرب كان في أُمِّ رأسها، في أمخاخها، في عقائدها الأصليَّة، حتَّى تغيَّرت نظرتها إلى الله سبحانه، وإلى أصل وجوده، ووحدانيَّته وصفاته، وتميُّزِه عن خَلْقه، فاضطربت هذه الأمور، واختلَّت موازينها، فانتقلت هذه الأديان التَّوحيديَّة في أصلها إلى أديانٍ تعترف بالتثليث، ومن أديانٍ مُنَزِّهة لله تعالى، إلى أديانٍ تُشَبِّه اللهَ بخلقه.