ونحن عندما نُذَكِّر بهذا لا نُذَكِّر بميلاد رسول، إنَّما نذكر في الحقيقة بميلاد رسالة، رسالة عظيمة، أعظم رسالة في هذا الوجود، خُتمت بها الرسالات، رسالة عامَّة خالدة، امتدَّت طولًا حتَّى شملت آباد الزمن، وامتدَّت عرضًا حتَّى انتظمت آفاق الأمم، وامتدَّت عمقًا حتَّى استوعبت شؤون الدُّنْيا والآخرة، والأفراد والمجتمعات والأمم.
وصدق الله العظيم إذ يقول: ﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ تِبْيَـٰنًا لِّكُلِّ شَىْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ ﴾ .
يجب علينا نحن المسلمين أن ننتهز الفرص لنتذكر رسول الله ﷺ لنتذكر سيرته، ونتذكر رسالته، لنتذكر حياته، لنتذكر تلك الدعوة الَّتي قام بها إلى البشريَّة عامَّة، ليُزَكِّي بها النفوس، ويصلح بها البيوت، ويسعد بها المجتمعات، ويهدي بها الإنسانيَّة إلى الَّتي هي أقوم.
ميلاده ﷺ ونشأته:
في شهر ربيع الأوَّل وُلد أعظم مولود، يوم ولد لم يكن يحسب النَّاس أنَّ لهذا المولود شأنًا أيَّ شأن، إنَّه لم يولد كما يولد أبناء الملوك، حينها تُرتفع الرايات، وتُعلق الزينات، وتطلق المدافع، إنَّه قد ولد وأبوه قد مات وهو حمل في بطن أمه، شاء الله تعالى أن ينشأ يتيمًا حتَّى يؤويه سبحانه، حتَّى ينشأ بعيدًا عن اتِّكال الأبناء على الآباء، ليكون اتِّكاله على الله وحده!
نشأ فقيرًا يتيمًا، لم يَدَعْ له أبوه من الثروات كما يدع أبناء الأغنياء لأبنائهم، لم يولد وفي فمه مِلْعَقة من ذهب، لم يعِشْ في الحرير والدِّيباج، بل كان مكافحًا منذ نعومة أظفاره، منذ صغره، كافح ليكسب لُقمة عيشه.
وكان شبابه شباب التعب والمعاناة والكفاح، صحيح أنَّه من قريش، ومن ذؤابة بني هاشم، ومن أشهر الأحساب وأفضل الأنساب، ولكنَّه لم يتَّكل على حسبه ونسبه، إنَّما عمل بكدِّ يمينه، وعرقِ جبينه؛ فرعى الغنم، رعاها بالأجرة، ولم يجعل ذلك عارًا عليه، العار أن تتبطَّل أو تتعطَّل، والشرف أن تعمل وتكافح، عمل في رعي الغنم، وعمل في التجارة مضاربًا ومشاركًا لعدد من النَّاس، حتَّى عمل في مال خديجة الَّتي رضيته زوجًا لها؛ وكانت نعم الزوجة، وكان لها نعم الزوج! هكذا كانت حياته ﷺ حياة عمل وحياة كفاح.