علم الله أنَّه سيأتي زمان يتقارب فيه العالم، حتَّى يصبح كأنَّه قرية واحدة، ويكون من السهل إبلاغ الرسالة الواحدة إلى العالم كله، وأن هذا أفضل من أن تكون هناك رسالات متعدِّدة، لأن الرسالة الواحدة تجمع النَّاس ولا تفرقهم، وأنَّ البشريَّة قد بلغت من النضج والرشد، ما لم تعد معه بحاجة إلى نُبوَّة جديدة، يكفي أن تأتي نبوَّة خاتمة تضع لها القواعد، وتؤسس لها الأسس، ثمَّ تدع للعقل البشري المجال، في أن يجتهد لكل عصر ولكل بيئة، بما يصلح لها.
وهذه من مزايا هذا الإسلام العظيم وهذه الرسالة المُحمَّديَّة أنَّها لم تُقيِّد النَّاس بأشياء تُلزمهم بصور جامدة لعصر من العصور فيتكيفون بها ويتقيدون بها، تركت لهم الحرية، تركت للعقل البشري أن يبتكر من الصور والآليَّات والكيفيَّات في كلِّ عصر ما يليق به.
ولذلك كان التيسير والتخفيف من سمات هذه الرسالة الخالدة، وكان من وصف النبي ﷺ في الكتب السابقة: ﴿ ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِىَّ ٱلْأُمِّىَّ ٱلَّذِى يَجِدُونَهُۥ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِى ٱلتَّوْرَىٰةِ وَٱلْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَىٰهُمْ عَنِ ٱلْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَـٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ ٱلْخَبَـٰٓئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَٱلْأَغْلَـٰلَ ٱلَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ ﴾ . فالرسالة الخالدة لا بدَّ أن تتضمَّن التيسير والتخفيف، وترفع الآصار والأغلال عن الخلق، ﴿ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُۥ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِۦ ﴾ .
كان عند بني إسرائيل آصارٌ وأغلال، عاقبهم الله على معاصيهم وكفرهم، وقتلهم الأنبياء بغير حق؛ بأن حرَّم عليهم طيِّبات أُحِلَّت لهم، قال تعالى: ﴿ فَبِظُلْمٍ مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَـٰتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ كَثِيرًا 160 وَأَخْذِهِمُ ٱلرِّبَوٰا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَٰلَ ٱلنَّاسِ بِٱلْبَـٰطِلِ ۚ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَـٰفِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا 161 ﴾ . بهذا كلِّه حرَّم الله عليهم هذه الطيبات.