ومع هذا العلم الغزيـر، والعقل المستنير، والتميُّز في الحديث والتفسير، وفي العقيدة والفقه، وفي السيرة والتاريخ، وفي اللغة والقراءات، انطلت عليه بعض الأقـوال التي روَّجها المروِّجـون، ممَّن أسلموا من أتباع الديانات الأخرى، فسلَّم لها بسهولة، ولم يطرحها للمناقشة، ولم يتأمَّل فيها تأمُّل المجتهد في الفقه، العالم بالأصول والفروع، فسلَّم بما قاله كعب الأحبار ووهب بن منبِّه وأمثالهما ومن وافقهما من تحديد عمر الدنيا من أولها إلى آخرها ـ أو من عهد آدم أبي البشر إلى أن تقوم الساعة ـ بـ (7000 سنة)، فعل ذلك في تاريخه، وفعله في تفسيره(1)، وهو أمر لا تقبله العقلية العلمية، والعجيب أن يكون هذا الكلام من الإمام الطبري، الذي طالما ناقش كبار المفسِّرين والمحدثين، وعباقرة الفقهاء والأصوليين، وأساتذة المؤرخين! ولم يغنِ عنه تبحُّره في التفسير، وتوغُّله في التاريخ، وتوسُّعه في الحديث، وتعمُّقه في الفقه، وروَّج ما روَّجه المروِّجون من تلك المقولات، التي يقرؤها علماء العصر من أهل الاختصاص، ويضحكون على من صدَّق بها، واعتبرها من الحقائق العلمية.
والحق أن ما استشهد به الطبري في «تاريخه» من أن خلق السماوات والأرض كان في ستة أيام، وأن اليوم عند الله ألف سنة؛ غير مُسلَّم له، ويرده أهل العلوم المكتسبة ـ كما سنذكر ـ فالأيام التي خلق الله فيها الكون هي حِقَب متطاولة، لا يعلم مقدارَها إلا الله، وتفسير الطبري أيام الخلق الستة بقول الله تعالى: ﴿ وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ﴾ . غير مُسلَّم له، ولا دليلَ شرعيًّا أو عقليًّا أو علميًّا عليه، والعلماء الكونيون يردون هذا الكلام.