وما أردتُ بها إلا خدمة الإسلام، ومحاولة الأخذ بيد أبنائه المخلصين، حتى لا يضلُّوا الطريق، أو يحطمهم الغلوُّ، وقد حذَّر النبي ﷺ أمَّته من الغلو والتطرُّف، وقال فيما رواه عنه ابن عباس: «إيـاكم والغـلو في الـدين؛ فـإنما أهـلك مَن كـان قبلكـم الغـلوُّ فـي الدين»(1).
وقال فيما رواه مسلم، عن ابن مسعود: «هلك المتنطِّعون، هلك المتنطِّعون، هلك المتنطِّعون» قالها ثلاث مرات(2). وهو لا يكرِّر الكلمة إلا لعِظَم خطرها، ولتأكيد الاهتمام بمضمونها.
إن هذا الغلو الذي انتهى بهؤلاء الشباب المخلصين الغيورين على دينهم إلى تكفير مَن خالفهم من المسلمين، واستباحة دمائهم وأموالهم، هو نفسه الذي انتهى بالخوارج قديمًا إلى مثل ذلك وأكثر منه، حتى إنهم استباحوا دمَ أمير المؤمنين عليٍّ 3 ، وهو مَن هو قرابةً من الرسول ﷺ ، وسابقةً في الإسلام، وجهادًا في سبيله.
ولم يكن الخوارج ينقصهم العمل أو التعبُّد، فقد كانوا صُوَّامًا قُوَّامًا، قُرَّاءً للقرآن، شجعانًا في الحق، باذلين أنفسهم في سبيل الله، كما وصفهم أحدهم (أبو حمزة الشاري) فأبدع في الوصف(3).
ولكن لم ينفعهم العمل وطول التعبُّد، وحسن النية؛ لأنهم ساروا في غير الاتجاه المستقيم، ومَن سار في غير الاتجاه المنشود، لم يزده طولُ السير إلا بُعدًا عن الهدف، فلا أرضًا قطع، ولا ظهرًا أبقى.
لقد صحَّ الحديث في ذمِّ الخوارج، وفي التحذير منهم من عشرة أوجه كما قال الإمام أحمد، وجاء عدد منها في «الصحيحين»، وفي بعضها: «يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقِيَهم». ومع هذا وصفهم بأنهم: «يَمْرُقون من الدين كما يَمْرُق السهم من الرَّمِيَّة». وبيَّن علامتهم المميزة، وهي أنهم: «يَدَعون أهل الأوثان، ويقتلون أهل الإسلام». كما أشار إلى ضحالتهم وسطحيتهم وعدم تعمُّقهم في فَهم القرآن حين قال: «يقرؤون القرآن، لا يُجاوز حناجرهم وتراقِيَهم»(4).