ولو شئنا كلمة إسلامية أصيلة نعبِّر بها عن هذا المعنى لكانت: «فقه العبادة». لا بالمدلول الاصطلاحي الذي شاع وأصبح عنوانًا على معرفة الأركان والشروط والأحكام الظاهرة والجزئية، بل بالمدلول الذي جاء به القرآن والسنة، في مثل قوله تعالى: ﴿ قَدْ فَصَّلْنَا ٱلْـَٔايَـٰتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ ﴾ ، ﴿ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا ﴾ ، ﴿ لِّيَتَفَقَّهُوا فِى ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوٓا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾ ، وقوله ﷺ : «مَن يُرد الله به خيرًا يُفقّههُ في الدين».
ولكني لم أستعمل هذه الكلمة خشية أن تفهم بالمدلول الاصطلاحي، وهو ما لم أقصده، ولم أحب استعمال كلمة «فلسفة» مضافة إلى العبادة، فآثرت جعل عنوانه: «العبادة في الإسلام»، وكفى.
والعبادة ليست أمرًا على هامش الحياة، إنها المبدأ الأول الذي أنزل الله كتبه به، وبعث رسله لدعوة الناس إليه، وتذكيرهم به إذا نسوه أو ضلُّوا عنه؛ ولهذا خاطب خاتم رسله محمدًا ﷺ بقوله: ﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِىٓ إِلَيْهِ أَنَّهُۥ لَآ إِلَـٰهَ إِلَّآ أَنَا۠ فَٱعْبُدُونِ ﴾ .
وكانت الصيحة الأولى في كل رسالة: ﴿ أَنِ ٱعْبُدُوا ٱللَّهَ وَٱجْتَنِبُوا ٱلطَّـٰغُوتَ ﴾ ، ﴿ ٱعْبُدُوا ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُۥٓ ﴾ .
ولما ختم الله كتبه بالقرآن، وختم رسالاته بالإسلام، وختم النبيين بمحمد 0 ، أكَّد هذه الحقيقة، وأعلن في كتاب الخلود: أن الغاية من خلق المكلفين أن يعرفوا الله ربَّهم ويعبدوه. فهذا سرُّ خَلْق هذا الجنس الناطق المفكِّر المريد في هذا العالم: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ 56 مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ 57 ﴾ .
بيد أن الناس ـ حتى المسلمين أنفسهم ـ ظلموا «العبادة» وحرَّفوها عن وجهها، وعن حقيقتها، وعن مكانها، فَهمًا وأسلوبًا، ونظرًا وتطبيقًا.