ذلك أن الشارع ـ كما يقول شيخنا الشيخ محمد المدني في بحث له ـ في العبادات منشئ مؤسِّس، وفي المعاملات مصلح مهذِّب(1).
فلا يجوز للناس أن يخترعوا عبادات من عند أنفسهم، ويتقرَّبوا بها إلى الله؛ لأن هذا ليس إليهم، ولكنه إلى الله، وإلا شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله، ولهذا سمَّى الإسلام هذه العبادات المخترعة «بدعة» في الدين، و«كلُّ بدعة ضلالة»، كما جاء في الحديث(2)، وقال ﷺ : «مَن أحدث في أمرنا (أي في ديننا) ما ليس منه فهو ردٌّ». أي مردود عليه، وفي رواية: «مَن عمل عملًا ليس عليه أمرُنا، فهو ردٌّ»(3). فهذا كلُّه في شأن العبادات.
أما المعاملات فهي من شأن الناس، إذا وُجدت جماعة منهم في مكان، فلا بد لهم أن يتعاملوا بعضهم مع بعض بائعين ومشترين، ومؤجِّرين ومستأجرين، ومقرضين ومستقرضين، ومعيرين ومستعيرين، مستقيمين ومتجاوزين، وملتزمين وغير ملتزمين، ومعتدلين ومتطرِّفين، وهنا يأتي الشارع ليُصلح ويُهذِّب ويقوِّم، فيضع القواعد، ويوضِّح المقاصد، ويبيِّن الشروط، ويُجلِّي المنهج، ويُبقي الصحيح الموافق لأهدافه ومنهجه، ويُلغي المخالف.
كما نرى ذلك حينما جاء الإسلام إلى المجتمع العربي، الذي يحيا حياة جاهلية، وكان في هذه الحياة معاملات وبيوع وأنكحة وعقود، فألغى منها ما ألغى، وعدَّل منها ما عدَّل، وأبقى ما أبقى، وَفْقًا لفلسفته ومنهجه في تنظيم الحياة وتسييرها: فحرَّم الربا، وكلَّ ما فيه ظلم أو غَبْن فاحش، وحرَّم الميسر (القمار)، ونهى عن الغرر، وهو لون من الميسر والمقامرة، يقل أو يكثر. وأقرَّ بيع السلم، ووضع له شروطًا، وقال: «مَن أسلم، فليسلم في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم»(4). وحرَّم الغشَّ والخداع في السلعة، أو في الثمن، أو في الكيل والميزان، وحرَّم التطفيف، وضبط المعاملات ضبطًا مُحكمًا.