وما بين «وسطيِّين» يحاولون أن يجمعوا بين الحُسْنَيَيْن: بين فقه الشرع، وفقه الواقع، بين استلهام القديم، والانتفاع بالجديد، بين الاستهداء بالتراث، واستشراف المستقبل، بين النظر إلى المقاصد الكلية، وإلى النصوص الجزئية، وفَهْمِ هذه في ضوء تلك، فهم يجتهدون ألَّا يَطْغَوْا في الميزان، وأن يقيموا الوزن بالقسط ولا يُخْسِروا الميزان. وأنا أرجو أن أكون من هؤلاء.
وشأن هؤلاء شأن أهل الوسط دائمًا، لا يَرْضَوْن أيًّا من الطرفين، ولا يُعجِبون واحدًا من الفريقين السابقين.
ولكنَّ هؤلاء هم الذين يُناط بهم الأمل، وينعقد عليهم الرجاء في انعقاد الأُمَّة، والرقي بها، وَفْق منهج الإسلام عقيدة وشريعة، ومُثُلًا وحضارة، موازِنين بين ثوابت الشرع ومتغيِّرات العصر، مُتَّخِذِين من التراث نورًا يهدي، لا قيدًا يعوق، جامعين بين القديم النافع والجديد الصالح.
هذا ما حاولنا أن نُسلِّط عليه الضوء في هذا البحث، وأن نَرُدَّ بتفصيلٍ على الذين أرادوا أن يُعَطِّلوا النصوص باسم المقاصد، والذين اتَّخَذوا من بعض اجتهادات الفاروق عمر 3 تُكَأةً لهم، وقد راج ذلك وشاع للأسف عن الكثيرين.
ولقد بيَّنَّا بالحُجَج الدامغة وبالبيِّنَات القاطعة: أنَّ ابن الخطَّاب لم يعطِّل نصًّا صريحًا يومًا، وحاشاه، بل كان من أشدِّ الناس احترامًا لمحكَمات النصوص، ونزولًا على حكمها.
وقد أطلنا القول في قضية «تعارض النصوص والمصالح» والقواعد التي تحكمها، والتفريق بين النصوص القطعية والظنيَّة، وتحدَّثْنا عن رأي الفقيه الحنبلي المعروف نجم الدين الطوفي، وما اشتهر عنه من القول بتعطيل النصِّ باسم المصلحة، حتى شاع أنَّه يقول بتعطيل النصِّ القطعي بالمصلحة، والرجل بريء من ذلك، كما بيَّنَّاه من صريح كلامه.