ولا ريب أنَّ موضوع السياسة الشرعية مهمٌّ وخطير، والفقهاء من عهد ابن القيم وما قبله ما بين جامدٍ حجَّر ما وسَّع الله في شريعته، وغَلَّق الأبواب على وُلاة الأمر، فاستحدثوا قوانين سياسية بمعزل عن الشريعة، ومُرَخِّصٍ بالَغَ في البَحْبَحة لهم، حتى اجترؤوا على حدود الله وحقوق الناس.
والمنهج الوسط هو المطلوب دائمًا، فهو لا يغلو ولا يقصِّر، ولا يطغى ولا يُخْسِر في الميزان.
ونحن أحوجُ ما نكون إلى هذا المنهج الوسطي في عصرنا، وخصوصًا هذا الموضوع الذي قد كثُر فيه اللَّغَط، واختلط فيه الصوابُ بالغلط، وتنازعت في الإفتاء فيه مدارسُ متباينةٌ في أهدافها وفي مناهجها: ما بين «متسيِّبين» لا يريدون أن يتقيَّدوا بشيء، ولا أن تضبطهم ضوابط، ولا أن تحكمهم أصول وقواعد، زاعمين أنَّهم إنَّما يحكِّمون روح الدين، ومقاصد الشرع، وهم أبعد الناس عن مقاصد الشرع، ورُوح الدِّين.
وما بين «حرفيِّين» جامدين يعيشون في الماضي وحده، ويجترُّون القديم، ولا يعيشون العصر، ولا يُحِسُّون بما تَمورُ به الحياة من أفكار، ولا ما يجري في العالم من حولهم من أحداث، وما يَجِدُّ كل يوم من جديد، لا يكاد يلاحقه الناس، فهؤلاء في غفلة عن مقاصد الشرع، وعن مشاكل العصر.
وما بين «وسطيِّين» يحاولون أن يجمعوا بين الحُسْنَيَيْن: بين فقه الشرع، وفقه الواقع، بين استلهام القديم، والانتفاع بالجديد، بين الاستهداء بالتراث، واستشراف المستقبل، بين النظر إلى المقاصد الكلية، وإلى النصوص الجزئية، وفَهْمِ هذه في ضوء تلك، فهم يجتهدون ألَّا يَطْغَوْا في الميزان، وأن يقيموا الوزن بالقسط ولا يُخْسِروا الميزان. وأنا أرجو أن أكون من هؤلاء.