الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن اتَّبع هداه.
( أما بعد)
فهذه فصول في «فقه الدولة في الإسلام»، وهو فقه قصَّر فيه المسلمون كثيرًا في الأزمنة الأخيرة، ولم يعطوه حقَّه من البحث والاجتهاد، كما أعطوا مجالات الفقه الأخرى، التي توسَّعت وتضخمت، وخصوصًا فقه العبادات.
ولقد شكا الإمام ابن القيم في عصره «القرن الثامن الهجري» من جمود فقهاء زمنه، حتى إنَّهم اضطروا أمراء عصرهم إلى أن يستحدثوا «قوانين سياسيَّة» بمعزل عن الشرع، وحمَّل ابن القيم الفقهاء الجامدين تَبِعة انحراف الأمراء والحكام، وشرودهم عن منهج الشريعة السمحة. وربما يعتبر هذا أول تسلل للقوانين الوضعيَّة لتحلَّ محل أحكام الشريعة الإسلامية(1).
ما زال لهؤلاء الجامدين من أهل الفقه أخلاف في عصرنا، يعيشون في القرن الخامس عشر الهجري، ولكنَّهم يفكِّرون بعقول علماء ماتوا من قرون، وقد تغيَّر كلُّ شيء تقريبًا في الحياة عمَّا كان عليه الحال في عهود أولئك العلماء. ونَسِيَ هؤلاء أنَّ الإمام الشافعي غيَّر مذهبه في مدَّة وجيزة، فكان له مذهب جديد، ومذهب قديم. وأنَّ أصحاب أبي حنيفة خالفوه في أكثر من ثلث المذهب، لاختلاف عصرهم من عصره، وقالوا: لو رأى صاحبنا ما رأينا، لقال بمثل ما قلنا أو أكثر(2). والإمام أحمد تُروى عنه في المسألة الواحدة روايات قد تبلغ سبعًا، أو أكثر وما ذلك إلَّا لاختلاف الأحوال والملابسات، وتغيُّر الظروف والأوضاع في غالب الأحيان.
مـقـدمــة