وكنتُ متردِّدًا في أول الأمر، فقد تناولت الموضوع في أكثر من كتابٍ لي، ثم أفردتُه بكتابٍ خاصٍّ سمَّيْتُه «الإسلام والعلمانية وجهًا لوجه». وذلك بعد المناظرة الشهيرة التي عقدت في «دار الحكمة» مقر نقابة الأطباء في القاهرة بين الإسلاميين والعلمانيين؛ وقد مثل العلمانيين محامي العلمانية الشهير الدكتور فؤاد زكريا، ومثل الإسلاميين الداعية الإسلامي الشيخ محمد الغزالي 5، والفقير إليه تعالى.
وكان صوت الإسلاميين هو الأعلى، وحجتهم هي الأقوى. والحق أبدًا أبلج، والباطل لجلج، والإسلام يعلو ولا يُعلى، وإنْ حاول فؤاد زكريا أن يتملَّص من الهزيمة، فلم يفلح.
ومع هذا، استخرت الله وتوكَّلت عليه، ورأيت أنَّ موضوع العلمانية من الأهمية والخطر بحيث ينبغي أن يُتناول أكثر من مرة، وبأكثر من أسلوب، حتَّى يتبين الحق من الباطل، ويهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حيَّ عن بينة.
وقد ركَّزت في هذا البحث على «العلمانية المتطرفة» ذات الأنياب والمخالب، التي تفترس الإيمان، وتفترس الإنسان، كما في العلمانيات الشيوعية القاهرة للشعوب، الساحقة للفطرة، المعادية للدين. وقد أراح الله البشر من شرِّها في أكثر بلاد العالم، وخصوصًا بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وأوربا الشرقية، التي تغيرت أنظمة الحكم فيها، ولم تتغيَّر ـ للأسف ولأمرٍ مبيَّت ـ أنظمة الحكم في الجمهوريات الإسلامية التي كانت جزءًا من الاتحاد السوفيتي.
وقد ألقيتُ في بحثي الضوء الكاشف على العلمانية المتطرفة المعتدية المفترسة في بلدين إسلاميين في الأصل ويُحسَبان على الليبرالية، وعلى بلاد «العالم الحُرِّ»، تجسَّدت فيهما هذه العلمانية الشرسة، التي أسفرت عن وحشيَّتِها، وكشَّرت عن أنيابها، وكُشِفَ اللثام عن حقيقتها. وهما: النموذج العلماني التركي، والنموذج العلماني التونسي.