إخلال المتدينين اليوم بفقه الأولويّات:
ولا يقف الإخلال بالأولويّات اليوم عند جماهير المسلمين، أو المنحرفين منهم، بل الإخلال واقع من المنتسبين إلى التدين ذاته، لفقدان الفقه الرشيد، والعلم الصحيح.
إنَّ العلم هو الذي يبين راجح الأعمال من مرجوحها، وفاضلها من مفضولها، كما يبيّن صحيحها من فاسدها، ومقبولها من مردودها، ومسنونها من مبتدعها، ويعطي كل عمل «سعره»، وقيمته في نظر الشرع.
وكثيرًا ما نجد الذين حرموا نور العلم ورشد الفقه، يذيبون الحدود بين الأعمال فلا تتمايز، أو يحكمون عليها بغير ما حكم الشرع، فيُفْرِطون أو يُفَرِّطون، وهنا يضيع الدين بين الغالي فيه والجافي عنه.
وكثيرًا ما رأينا مثل هؤلاء ـ مع إخلاصهم ـ يشتغلون بمرجوح العمل، ويدعون راجحة، وينهمكون في المفضول، ويغفلون الفاضل.
وقد يكون العمل الواحد فاضلًا في وقت مفضولًا في وقت آخر، راجحًا في حال مرجوحًا في آخر، ولكنَّهم ـ لقلة علمهم وفقههم ـ لا يفرقون بين الوقتين، ولا يميزون بين الحالين.
رأيت من المسلمين الطيبين في أنفسهم مَن يتبرع ببناء مسجد في بلد حافل بالمساجد، قد يتكلف نصف مليون أو مليونًا أو أكثر من الجنيهات أو الدولارات، فإذا طالبته ببذل مثل هذا المبلغ أو نصفه أو نصف نصفه في نشر الدعوة إلى الإسلام، أو مقاومة الكفر والإلحاد، أو في تأييد العمل الإسلامي لإقامة الشرع وتمكين الدين، أو نحو ذلك من الأهداف الكبيرة التي قد تجد الرجال ولا تجد المال، فهيهات أن تجد أذنًا صاغية، أو إجابة ملبية، لأنَّهم يؤمنون ببناء الأحجار، ولا يؤمنون ببناء الرجال!