وهذا ما قاله من قاله لبشر الحافي من قديم، ولو صح الفهم، وصدق الإيمان وعرف المسلم معنى فقه الأولويّات: لكان عليه أن يشعر بسعادة أكبر، وروحانية أقوى، كلما استطاع أن يقيم بنفقات الحج مشروعًا إسلاميًّا، يكفل الأيتام، أو يطعم الجائعين، أو يؤوي المشرَّدين، أو يعالج المرضى، أو يعلم الجاهلين، أو يشغل العاطلين.
ولقد رأيت شبابًا مخلصين كانوا يدرسون في كليات جامعية في الطب أو الهندسة، أو الزراعة، أو الآداب، أو غيرها من الكليات النظرية، أو العملية، وكانوا من الناجحين بل المتفوقين فيها، فما لبثوا إلَّا أن أداروا ظهورهم لكلياتهم، وودعوها غير آسفين، بحجة التفرغ للدعوة والإرشاد والتبليغ، مع أنَّ عملهم في تخصصاتهم هو من فروض الكفاية، التي تأثم الأمة جميعها إذا فرطت فيها، ويستطيعون أن يجعلوا من عملهم عبادة وجهادًا إذا أُدِّيَ بإتقان، وصحت فيه النية، والتزمت حدود الله تعالى.
ولو ترك كل مسلم مهنته فمن ذا يقوم بمصالح المسلمين؟ ولقد بُعث الرسول ﷺ وأصحابه يعملون في مهن شتَّى، فلم يطلب من أحد منهم أن يدع مهنته ليتفرغ للدعوة، وبقي كل منهم في عمله وحرفته، سواء قبل الهجرة أم بعدها. فإذا دعا داعي الجهاد، واستُنْفِروا، نفروا خِفافًا وثقالًا، مجاهدين بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله.
ولقد أنكر الإمام الغزالي(1) على أهل زمنه توجُّه جمهور متعلميهم إلى الفقه ونحوه، على حين لا يوجد في البلد من بلدان المسلمين إلَّا طبيب يهودي أو نصراني، يوكل إليه علاج المسلمين والمسلمات، وتوضع بين يديه الأرواح والعورات، وتؤخذ عنه الأمور المتعلقة بالأحكام الشرعيَّة، مثل جواز الفطر للصائم، والتيمم للجريح!