ولهذا المعنى كان لهذا الفقه من القبول والاحترام والانقياد لأحكامه لدى الأمة حكَّامًا ومحكومين، ما لم يحظ به أي قانون آخر من القوانين التي وضعها البشر منذ قانون حمورابي، إلى قانون نابليون، إلى أحدث قوانين العصر. ذلك لأن أمتنا تنظر إلى هذا الفقه وإلى العمل به والانقياد له، على أنَّه عبادة وقربة إلى الله كالصلاة والصيام؛ بل ترى أن تقبل أحكامه بالرضا والتسليم، وانشراح الصدر أمر لا يتم الإيمان إلَّا به، وخاصة في الأحكام التي جاء بها نص صحيح الثبوت، صريح الدلالة ﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِىٓ أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ .
2 ـ الوازع الديني:
وتبعًا لهذا الأساس الرباني، تنشأ مزية أخرى للفقه الإسلامي هي ما يصاحبه من المعاني الروحية الدينية التي فاق بها كل القوانين البشرية.
فهو لا يعتمد على وازع السلطة وحدها، بل يعتمد ـ مع ذلك وقبل ذلك ـ على الضمير الديني الذي يقيّد بفكرة الحلال والحرام، ولا يكفيه أن يحكم له بأنَّه صاحب حق قضاء، حتى يطمئن إلى استحقاقه له ديانة. فليس كل ما يزعجه هو خوف السلطات التي تراقبه، بل خشية الله المطلع على سرِّه ونجواه. فهو إذا أفلت من يد قانون الأرض، لن يفلت من عدالة السماء، وإن استطاع النجاة والفرار من عقوبة الدنيا، فلن ينجو من عقاب الآخرة، وهو أشد وأخزى.
ومعنى هذا أنَّ الإنسان يقيم من داخل نفسه حارسًا على نفسه يمنعه من مخالفة الشرع ويدفعه إلى إتباعه، وهو حارس يقظ لا يحابي ولا يتهاون، ولا تروج عنده الحيل كحراس القوانين.