ولم يكن هناك أي تعارض بين العلم والدين، أو بين الطب والدين، بالعكس نجد ابن رشد يؤلِّف في الفقه: «بداية المجتهد ونهاية المقتصد» ويؤلف في الطب «الكليات»، وكان الناس يلجؤون إلى فتواه في الطب، كما يلجؤون إلى فتواه في الفقه. ونجد ابن النفيس مكتشف الدورة الدموية الصغرى، من فقهاء الشافعية، ترجم له التاج السبكي في طبقات الشافعية(1)، ونجد الفخر الرازي وهو مؤلف «التفسير الكبير»، و«المحصول في علم الأصول» وغيرهما، كانت شُهرته في الطب لا تقلُّ عن شهرته في التفسير وعلوم الدين.
وقرَّر الفقهاء المحقِّقون أن تعلم الطب من فروض الكفاية، بمعنى أنَّه يجب أن يكون في الأمَّة من الأطبَّاء المتخصصين في كل جانب من جوانب الطب من يلبِّي حاجة الأُمَّة، ويكفيها عن غيرها(2). وقد عاب الإمام الغزالي على أهل زمانه أنَّه يجد في البلدة عشرات الفقهاء، ولا يجد إلَّا طبيبًا من أهل الذِّمَّة(3).
ومن أجل ذلك نجد الإسلام يرحِّب جدًّا بكل ما يُسفر عنه العلم الحديث والطبِّ الحديث، ممَّا يخفِّف عن الإنسان معاناته وويلاته.
ومن ذلك مسألة «زرع الأعضاء»، ويُؤثر بعض الأطباء تسميته «غرس الأعضاء»، وهو فعلًا أقرب إلى الغرس منه إلى الزرع الذي يبدأ بالبذرة، ولكن راجت كلمة «الزرع»، وأمست مصطلحًا شائعًا، ولا مشاحَّة في الاصطلاح.
ولا شك أن من آفات العصر الحديث أن وُجِدَت فيه أشياء كثيرة تسبِّب أمراضًا لم تكن موجودة في الزمن الماضي، أو كانت موجودة بصورة أخف. كما أنّ من مزايا العصر الحديث أيضًا: أنَّ الطب تقدَّم فيه تقدُّمًا هائلًا، وتهيَّأت فيه أدوية وعلاجات لم تتهيَّأ للناس من قبل.
ومن أمراض العصر الخطيرة التي انتشرت: «الفشل الكُلَوي» الذي أصبح منتشرًا جدًّا، وغدا يهدِّد الناس بالموت، أو بالغسيل الدَّوْري، وهو أمر مكلِّف وشاقّ. فماذا نفعل أمام هذه الظاهرة؟ أنصنع كما صنع الغرب، حيث استطاع الطب هناك أن يأخذ كُلية إنسان حيٍّ سليم بشروط معينة، ليزرعها في جسم المريض بعد نزع كليته المصابة بعد إجراء فحوص، وتحقُّق شروط؟ كما استطاع الطب ـ أيضًا ـ أن يأخذ من الميت دماغيًّا كليته وقلبه وكبده وغيرها، ليزرعها أو يغرسها في جسم مريض يحتاج إليها. هل تُجيز شريعتنا أن يتبرَّع إنسان حيٌّ لآخر بجزء من بدنه؟ وهل تجيز شريعتنا ـ أيضًا ـ أن نأخذ كلية إنسان مات حديثًا، لزرعها أو لغرسها في جسم إنسان مريض محتاج إليها، فيستفيد الحي، ويأخذ الميت الأجر، ولا سيما إذا أوصى بذلك؟