وإذا كانت هذه هي نشأة القانون، فإنّ الشريعة الإسلامية لم تنشأ هذه النشأة، ولم تسِرْ في هذا الطريق. لم تكن الشريعة قواعد قليلة ثم كثرت، ولا مبادئ متفرّقة ثم تجمَّعت، ولا نظريات أولية ثم تهذَّبت. ولم تُولد الشريعة طفلة مع الجماعة الإسلامية، ثم سايرت تطورها ونمت بنموِّها، وإنما وُلدت شابة مكتملة، ونزلت من عند الله شريعة كاملة شاملة جامعة مانعة، لا ترى فيها عوجًا، ولا تشهد فيها نقصًا، أنزلها الله تعالى من سمائه على قلب رسوله محمد ﷺ في فترة قصيرة، لا تجاوز المدة اللازمة لنزولها، فترة بدأت ببعثة الرسول، وانتهت بوفاته، أو انتهت يوم قال الله تعالى: ﴿ ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلْإِسْلَـٰمَ دِينًا ﴾ .
ولم تأت الشريعة لجماعة دون جماعة، أو لقوم دون قوم، أو لدولة دون دولة، وإنّما جاءت للناس كافة من عرب وعجم، شرقيين وغربيين، على اختلاف مشاربهم، وتباين عاداتهم وتقاليدهم وتاريخهم، فهي شريعة كل أسرة، وشريعة كل قبيلة، وشريعة كل جماعة، وشريعة كل دولة، بل هي الشريعة العالَمية التي استطاع علماء القانون الوضعي أن يتخيَّلوها، ولكنهم لم يستطيعوا أن يُوجدوها.
وقد جاءت الشريعة كاملة لا نقص فيها، جامعة تحكم كلّ حالة، مانعة لا تخرج عن حكمها حالة، شاملة لأمور الأفراد والجماعات والدول، فهي تنظِّم الأحوال الشخصية والمعاملات وكلّ ما يتعلق بالأفراد، وتنظم شؤون الحكم والإدارة والسياسة وغير ذلك مما يتعلق بالجماعة، كما تنظِّم علاقات الدول بعضها بالبعض الآخر في الحرب والسلم.
ولم تأتِ الشريعة لوقت دون وقت، أو لعصرٍ دون عصر، أو لزمنٍ دون زمن، وإنّما هي شريعة كلّ وقت، وشريعة كل عصر، وشريعة الزمن كلّه حتى يرث الله الأرض ومَن عليها.