ورضي الله عن أصحابه، الذين أخلصوا دينَهم لله، وأخلصهم الله لدينه، فهاجروا لله، وآوَوْا ونصروا لله، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، وكان الله ورسوله والجهاد في سبيله أحبَّ إليهم من آبائهم وأبنائهم وإخوانهم وعشيرتهم، وأموالٍ اقترفوها، وتجارةٍ يخشَوْن كسادها، ومساكنَ وأوطانٍ يرضونها، ورضي الله عمَّن سار على دربهم إلى يوم الدِّين.
( أما بعد)
فهذه الصفحات تتحدَّث ـ أخي القارئ ـ عن شُعْبةٍ عظيمة من شُعَب الإيمان، وعن مقامٍ رفيعٍ من مقامات الربَّانيِّين، هو مقام «التَّوكُّل على الله» تعالى شأنه، الذي حثَّ عليه القرآن الكريم بأساليب شتَّى، وصور متنوِّعة، وكذلك السُّنَّة النبويَّة المشرفة. وكان رسول الله ﷺ نموذجًا للمؤمن «المتوكِّل» على ربِّه حقَّ توكُّلِه، كما وُصِف بذلك في بعض كُتُبِ أهل الكتاب.
وهذه الشُّعْبة، أو هذا المَقَام، أو الخُلُق الربَّاني، من المقامات التي دخل فيها خَلْط وخَبْط، وسوءُ فهْمٍ عريض، حتَّى التبس التَّوكُّل بالتواكل واطِّراح الأسباب، ورُويت في ذلك حكايات عن بعض الصُّوفيَّة، فيها مبالغاتٌ تخرج عن منهج الوَسَطيَّة التي جاء بها الإسلام، كما تخرج عن نظام السُّنَن التي أقام الله عليها هذا الخَلْق، وربطها بشبكة الأسباب والمسبَّبات.
ونحن على منهجنا الذي التزمناه لا نحيد عنه، وهو الاستمساك بما جاء في القرآن وصحيح السُّنَّة، ففيهما النَّجاة من كلِّ هَلَكة، والسلامة من كل انحراف، والاهتداء إلى ما يحبُّ الله ويرضى، ففيهما الحياة والنور كما قال تعالى: ﴿ وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا ۚ مَا كُنتَ تَدْرِى مَا ٱلْكِتَـٰبُ وَلَا ٱلْإِيمَـٰنُ وَلَـٰكِن جَعَلْنَـٰهُ نُورًا نَّهْدِى بِهِۦ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا ۚ وَإِنَّكَ لَتَهْدِىٓ إِلَىٰ صِرَٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ 52 صِرَٰطِ ٱللَّهِ ٱلَّذِى لَهُۥ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلْأَرْضِ ۗ أَلَآ إِلَى ٱللَّهِ تَصِيرُ ٱلْأُمُورُ 53 ﴾ .