وفي «الإحياء» جعل للتوبة الكتاب الأول من «ربع المنجيات»، ولكنِّي في هذه السلسلة لم ألتزم ترتيبًا معينًا، إنَّما أقدِّم للنشر ما يفتح الله تعالى عليَّ بإنجازه، وقد يمكن ترتيبها فيما بعد ترتيبًا منطقيًّا.
إنَّ علم التوبة علمٌ مهمٌّ، بل ضروري، والحاجة إليها ماسَّة، وخصوصًا في عصرنا، وقد غرق النَّاس في الذنوب والخطايا، ونسُوا الله فأنساهم أنفسهم، وتكاثرت عليهم المغريات بالشر، والمعوِّقات عن الخير، وتكالبت على صدِّهم عن سبيل الله، وإغرائهم بسبل الشيطان: وسائلُ جهنميَّة، وأجهزة جبَّارة، تُقرأ وتُسمع وتُشاهد، وتؤثِّر بالصوت وبالصورة، وبالنغم واللحن، وبالتَّمثيل والتَّهويل، وتعاونت على ذلك شياطين الإنس والجن، وأعداء الداخل والخارج، وساعد على ذلك الأنفس الأمَّارة بالسوء، وركونها إلى الدنيا، ونسيانها للموت، وللحساب، وللجنَّة والنَّار، وغفلتها عن ربِّها وخالقها الواحد القهار، فلا عجب إذا أضاعوا الصلوات واتَّبعوا الشهوات، ونقضوا عهد الله من بعد ميثاقه، وفرَّطوا في حدود الله، وحقوق الناس، واستمرؤوا أكل أموال النَّاس بالباطل، ولم يبالوا بما كسبوا من مال: أكان من حلالٍ أم من حرام.
ألَا ما أحوج النَّاس إلى نذيرٍ يصْرخُ فيهم أن أفيقوا من سكرتكم، وانتبهوا من رقدتكم، وثُوبوا إلى رشدكم، وتوبوا إلى ربكم، قبل أن يأتي يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، إلَّا من أتى الله بقلب سليم!
في هذا الجزء اجتهدنا أنْ نوقظ القلوب الغافلة، ونردَّ العقول الشاردة، ونقوِّي العزائم المسترخية، وأنْ نبيِّن للناس أهمية التَّوْبة وضرورتها وفضلها، ووجوب فوريَّتها، ونبيِّن مقوماتها وأركانها وأهم أحكامها، كما نبيِّن ثمراتها ومكاسب التَّائب من ورائها في الدنيا والآخرة، كما بينَّا الموانع منها، والعقبات في طريقها، ثم البواعث عليها، وقد أطلنا في ذلك لشدَّة الحاجة إليه في عصر الشهوات والغفلات والشبهات.