وأمَّا ما لا تستقلُّ العقول بإدراكه من المصالح والمفاسد، فهو المعبِّر عنه بـالتعبُّدِ، وهو قليل بالنسبة إلى ما عُرِفت مصالحه ومفاسده، فإذا ورد به الشرع حثَّتْ العقولُ على الإجابة إليه، والإكبابِ عليه، لما فيهِ من شرَفِ الطاعة، وما أعدَّهُ الله من الثواب عليه»(1).
وقال أيضًا: «وكلُّ مَن جُبِل على خُلُقٍ كريمٍ، وطبعٍ مستقيم، فهو مأجورٌ على العمل بمقتضى ذلك الخُلُقِ؛ ولا يثاب عليه في نفسه، إذ ليس من كسبه، وذلك كالغَيرة والحياء والجود والسخاء والحلم والأناة.
وكلُّ مَن جُبل على خُلُق لئيم، وطبع غير مستقيم، فلا يُعاقَب عليه؛ إذ لا صنع له فيه، وإنَّما يُعاقَب على إجابته إلى ما يدعو إليه ويقتضيه، وذلك كالبخل والشحِّ والكِبْر والقِحَة(2) ونحوها»(3).
وقال بعده الإمام ابن قيِّم الجوزيَّة (ت: 751هـ): «فدلَّ على أنَّ من الخُلُق ما هو طبيعةٌ وجِبِلَّة وما هو مُكْتَسَب»(4).
وهـذا يؤكد غلبةَ الطبع على التطبُّع، حتَّى يصير التطبع خُلُقًا وطبعًا، ينـزل بالعادة منـزلة الطبيعة؛ فـكل شيء يرجع إلى أصله. والإنسان ابنُ عوائدهِ ومألوفه.
ومن الأخلاق ما يكون مكتسَبًا بالمخالطة والمجالسة، فيكتسب الإنسان من جليسه ما يُعجَب به، فيحمل نفسه عليه المرة بعد المرة بعد المرة، ويتكلَّفه، فإذا به قد تخلَّق به وتحقَّق؛ كاستعفاف من لم يكن عفيفًا حتَّى يكون، واستغناء من لم يكن غنيًّا حتَّى يكون، وتصبُّر من لم يكن صبورًا حتَّى يكونَ؛ بالغةً ما بلغت المصاعب.