ومن الأخلاق ما يكون مكتسَبًا بالمخالطة والمجالسة، فيكتسب الإنسان من جليسه ما يُعجَب به، فيحمل نفسه عليه المرة بعد المرة بعد المرة، ويتكلَّفه، فإذا به قد تخلَّق به وتحقَّق؛ كاستعفاف من لم يكن عفيفًا حتَّى يكون، واستغناء من لم يكن غنيًّا حتَّى يكون، وتصبُّر من لم يكن صبورًا حتَّى يكونَ؛ بالغةً ما بلغت المصاعب.
وبهـذا المعنى مِنْ تكوُّن الأخلاق بالتخلُّق، وحمل النفس عليها؛ جاء القرآن العظيم، وهدي النبيِّ الكريم ﷺ ؛ فبيَّن الله سبحانه إمكانية تعليم الجوارح من الطيور والبهائم، ككلاب الصيد، ما لم تكن تعلمُه أو تعهده طباعها، فقال 8 : ﴿ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ ٱلْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ ٱللَّهُ ۖ فَكُلُوا مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَٱذْكُرُوا ٱسْمَ ٱللَّهِ ﴾ . ولئن كان الحيوان ممكَّـنًا من تعلُّم ما لم يعلمه والتطبُّع بما لم يُطبَعْ عليه؛ فمعلِّمُه الإنسانُ أولى بكلِّ ذلك التعلُّم والتخلُّقِ والتطبُّعِ وأجدر.
قال الأديبُ العالمُ الحكيمُ الرَّاغبُ الأصبهاني (ت: 502 هـ): «حقُّ الإنسان أن يتحرَّى بغاية جهده مصاحبة الأخيار؛ فهي قد تجعل الشرير خيِّرًا؛ كما أنَّ مصاحبة الأشرار قد تجعل الخيِّرَ شريرًا. قال بعض الحكماء: من جالس خيِّرًا أصابته بركتُهُ؛ فجليس أولياء الله لا يشقى، ولو كان كلبًا ككلب أصحاب الكهف؛ فإنَّ الله تعالى ذَكَره في كتابه العزيز، فقال: ﴿ وَكَلْبُهُم بَـٰسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِٱلْوَصِيدِ ﴾ . وليس إعداءُ الجليس جليسَه في خلُقه بمقاله وفعاله فقط، بل بالنظر إليه؛ فالنظر في الصُّوَرِ يؤثِّر في النفوس أخلاقًا مناسبة إلى خُلُق المنظور إليه؛ فإن من دامت رؤيته لمسرور سُرَّ، أو لمحزونٍ حَزِنَ؛ وليس ذلك في الإنسانِ فقط، بل في الحيوانات والنباتِ، فإنَّ الجمل الصعْب قد يصيرُ ذَلولًا بمقارنة الذُّلُلِ، والذلول قد ينقلبُ صعْبًا بمقارنة الصِّعَابِ، والريحانة الغضَّة قد تذبل بمقارنة الذابلة؛ ولهـذا يلتقط أصحابُ الفلاحة الرِّمَمَ عن الزرع لئلا تُفسِدها، ومعلومٌ أنَّ الماءَ والهواءَ يَفسدان بمجاورة الجِيفة إذا قرُبت منهما؛ وذلك ممَّا لا ينكره ذو تجرِبة، فإذا كانت هـذه الأشياء قد بلغتْ في قبول التأثير هـذا المبلغ، فما الظنُّ بالنفوسِ البشريةِ الَّتي موضوعها على قبول صُوَر الأشياء خيرها وشرِّها؟!»(1).