ولما انتشر الوباء في بلاد الشام: قرَّر عمرُ بمشورة الصحابة العدول عن دخولها، والرجوع بمن معه من المسلمين. فقيل له: أتفرُّ من قدر الله يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم، نفرُّ من قدر الله إلى قدر الله، أرأيتَ لو كان لك إبلٌ هبطتْ واديًا له عَدْوَتان: إحداهما مُخْصِبة، والأخرى مُجْدِبة، أليس إن رعيتَ المُخْصبة رعيتَها بقَدَر الله، وإن رعيتَ المجدبة رعيتَها بقدَر الله(1)؟!
(جـ) على أنَّ القدر أمر مُغَيَّب مستور عنَّا، نحن لا نعرف أنَّ الشيء مقدَّر إلَّا بعد وقوعه، أمَّا قبل الوقوع فنحن مأمورون أنْ نتَّبع السُّنَن الكونيَّة، والتوجيهات الشرعيَّة لنحرز الخير لديننا ودنيانا.
إنَّما الغيبُ كتابٌ صـانَهُ
عن عُيونِ الخَلْقِ ربُّ العالمينْ
ليسَ يبدُو مِنهُ للناسِ سوَى
صفحةُ الحاضرِ حينًا بعدَ حِينْ(2)
وسنن الله في كونه وشرعه تحتِّم علينا الأخذ بالأسباب، كما فعل ذلك أقوى النَّاس إيمانًا بالله وقضائه وقدره، وهو رسول الله ﷺ ، فقد أخذ الحذر، وأعد الجيوش، وبعث الطلائع والعيون، وظاهر بين درعين، ولبس المغفر على رأسه، وأقعد الرماة على فم الشعب، وخندق حول المدينة، وأذن في الهجرة إلى الحبشة وإلى المدينة، وهاجر هو بنفسه، واتخذ أسباب الحِيطة في هجرته. أعد الرواحل الَّتي يمتطيها، والدليل الَّذي يصحبه، وغيَّر الطريق، واختبأ في الغار، وتعاطى أسباب الأكل والشرب، وادخر لأهله قوت سنة، ولم ينتظر أن ينزل عليه الرزق من السماء، وقال للذي سأله أيعقل ناقته أم يتركها ويتوكل: «اعقلها وتوكَّل»(3)، وقال: «فِرَّ من المجذوم كما تفرُّ من الأسد»(4)، و«لا يُوردَنَّ مُمْرضٌ على مُصِحٍّ»(5). أي لا يخلط صاحب الإبل المريضة إبله بالإبل السليمة اتقاءَ العدوى.