أنَّ عصرنا هذا خاصَّة أحوج ما يكون إلى فقه التيسير؛ لغلبة النزعة الماديَّة على العقول، وغلبة الشهوات على الأنفس، وازدحام الحياة المعاصرة بأمور كثيرة شغلت النَّاس عن دينهم، وعن حقِّ ربهم عليهم، فكان علينا ـ أهل العلم والدعوة ـ أن نمسك النَّاس على الدين، ولو بخيط دقيق، حتَّى لا يتفلَّتوا منه سراعًا، وأن نحبِّب الله جل وعلا إليهم بتخفيف تكاليفه عليهم، ما وجدنا إلى ذلك سبيلًا.
الحقيقة السابعة:
أنَّ الحج عبادة خاصَّة، هي أشد حاجة إلى التيسير من سائر العبادات الأخرى لعدة أسباب:
أولًا: لأنَّ كثيرًا من النَّاس قد يؤدي هذه الشعيرة، في ظروف ماديَّة وصحية غير مواتية تمامًا، وقد سافر وارتحل عن أهله ووطنه، والسفر قطعة من العذاب، هو ـ كالمرض ـ من موجبات الترخص والتخفيف.
ثانيًا: لشدة الزحام الَّذي يشكو منه المسلمون كافة في مواسم الحج طوال السنوات الأخيرة، وهذا من فضل الله تعالى على أمة الإسلام، وخصوصًا عند الدفع من عرفات، والمبيت بمزدلفة، والمبيت بمِنى، وعند طواف الإفاضة، ورمي الجمرات؛ ولا سيَّما مع قلة الوعي لدى كثيرين من الحجاج، فكلَّما يسَّرنا على النَّاس في أداء مناسكهم، أعَنّاهم على حسن العبادة لربهم، وفي هذا خير كثير.
ثالثًا: لأنَّ الرسول ! يسَّر كثيرًا في أمور الحج خاصَّة، فحين سئل يوم النحر عن أمور شتى قُدِّمت أو أُخِّرت، قال لمن سأله: «افعلْ ولا حرج»(1). كما أنَّه نهى في الحجِّ خاصَّة عن الغلوِّ في الدين، حين قال للفضل بن العبَّاس، وقد التقط الحصى للرمي: «بمثلِ هذا فارمُوا، وإيَّاكم والغلوَّ في الدِّين، فإنَّما هلك من كان قبلكم بالغلوِّ في الدِّين»(2).