فالقرآن هو كتاب الله الَّذي ﴿ لَّا يَأْتِيهِ ٱلْبَـٰطِلُ مِنۢ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِۦ ﴾ ، تميَّز بأنه كتاب الخلود، كتاب الزمن كله، ليس كتاب عصر من العصور، ولا كتاب جيل دون جيل، ولهذا لم يستحفظه الله المسلمين، كما استحفظ التوراةَ أهلَها، إنَّما هو سبحانه الَّذي حفظه؛ إذ ليس هناك كتاب بعد القرآن، فلو حُرِّف القرآن لن يأتي بعده كتاب آخر يُهَيْمِن عليه ويُصحِّح له، وليس هناك نبي بعد محمد ﷺ ، وليس هناك رسالة بعد الإسلام، وليس هناك أُمَّة بعد هذه الأمَّة.
ولذلك ضمن الله وتكفَّل بحفظه، قال تعالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَـٰفِظُونَ ﴾ ، والجملة الاسمية ـ كما يقول البلاغيون ـ إنَّها مؤكِّدة أكثر من الجملة الفعلية، فإذا دخلت عليها «إنَّ» وهي حرف تأكيد كان ذلك أكثر تأكيدًا، فإذا جاء الخبر مقرونًا بلام التأكيد ﴿ ﮛ ﮜ ﮝ ﴾ فهذا زيادة في المؤكِّدات الَّتي جاء بعضها وراء بعض لتدلّ على مدى الحفظ الإلٰهي، فالقرآن كتابٌ محفوظ، كتابٌ خالد. ولهذا هيَّأ الله له أسباب التواتر منذ عهد البعثة إلى اليوم، ولا يوجد كتاب في الدنيا يحفظه الألوف وعشرات الألوف غيْر القرآن الكريم.
بل إنَّ الصبيان عندنا يحفظونه، على عكس ما يوجد عند أهل الكتاب، إذ لا يوجد عندهم من يحفظ الكتاب المقدَّس ولا نصفَه ولا ربعَه ولا خمسَه ولا عُشرَه، لا على مستوى القسِّيسين والكرادلة والأساقفة فحسب، بل على كل المستويات الأعلى والأدنى، ولعلكم سمعتم وقرأتم عن صبية حفظوا القرآن، وأطفال دون السابعة حفظوه، وقُرًى بأكملها يحفظ أهلها القرآن(1).
وأعجب من هذا أن تجد من غير العرب من يحفظ القرآن وهو لا يكاد يعرف كلمة واحدة في اللغة العربيَّة، وقد اختبرت بعضهم بنفسي، وكنتُ آتيهم بالمشتبهات من الآيات فلا يلحنون ولا يسقطون كلمة، ولا يخرمون حرفًا؛ كأنَّهم أجهزة تسجيل، ومنهم من أبناء باكستان وبنجلاديش وبورما، ولو سألتَ أحدهم: ما اسمك؟ لا يعرف معناها؛ لأنَّه لا يعرف العربيَّة، وهذا من إعجاز القرآن الكريم.